ما وراء الأفكار

".. لم تشغله التفاصيل الدقيقة للحياه اليومية و لا الصغائر، و لم يخدعه المظهر الخارجي أو يفسر سلوكيات البشر علي محملها الظاهر و يأخذ بالمسلمات.. فوضع أعماق الانسان تحت المجهر باحثا عن الحقيقة و سعي لرؤية العالم بعينين متفتحتين، فمزج بين رحابة الأفق الانسانى و حيدة العالم و شغفه بالمعرفة.." د. سناء صليحة، الأهرام، 15/9/2002


كان د. يوسف عز الدين عيسى يستوحي الأفكار لأعماله من أبسط الأشياء؛أشياء قد تبدو لا قيمة لها، لا تستوقف الشخص العادي و لكنها بالنسبة له، كانت عالم من الفكر و الخيال، لا يراه أحد غيره؛ أشياء بسيطة مثل معطف لطفل صغير معلق في مدخل منزل أحد الأصدقاء، أو مظروف خالي ملقي علي المكتب،أو عبارة سمعها من كمسري في الترام أو قطعة طباشير صغيرة، أو فراشة هائمة في الفضاء، أو صورة لشاعر صغير السن يدعي (شيلي) أو شارع صغير قذر متفرع من شارع كبير نظيف، أو قطرة ماء أو جنازة شخص قريب الي قلبه ...


كان يستخدم الرمز والتجريد. إن الأشياء الصغيرة في الحياة المشار اليها أعلاه لم تكن هي موضوعاته ولكنها كانت الإلهام الذى بستوحي منه فكرة العمل. إنه لم يكن يرى تلك الأشياء ولكنه كان يرى من خلالها وما وراءها. إن هذه الأشياء كانت كالشرارة التي توحي اليه بأفكارٍ شديدة العمق.


إن المعطف الصغير المعلق في مدخل منزل صديقٍ له، قد أوحى له على الفور بفكرة روايته الشهيرة " العسل المر" التي كتبها عام 1958، وفيها يعالج المؤلف بشكلٍ غير مباشر فكرة القهر الفكرى والمجتمع المحدود بأسوار قائمة علي الكبت و التضليل.


بينما كان يجلس متأملاً مظروفاً على المنضدة لمعت في ذهنه فكرة قصة من أكثر القصص شاعرية وهي قصة "خطاب إلى الله", عام 1948.


"أنا فنان يا سيدي ولكن مصيري البائس هو الذي جعلني كمسرياً للترام!" تأثر د. يوسف عز الدين عيسي تأثراً شديداً عند سماعه لكمسري الترام و هو ينطق ببهذه العبارة البائسة وفي الحال تكونت في ذهنه فكرة قصة "سيكوسيتا" عام 1946، التى "يعالج فيها موضوع عبثية الوجود عندما تتحطم الأحلام ويجد الانسان مصيره في أيدي مجموعة من البلهاء، لكن المجتمع المتخلف يعتبرهم شخصيات ذو حيثية متحكمة في قدرة رغم أنها تجرده من أبسط رغباته في الوجود ".*


كانت قطعة صغيرة من الطباشر الأبيض وراء فكرة مسرحيته الشهيرة "زوار" 1965 التي برع فيها في تحليل ماهية الإنسان من خلال عالم يتأرجح بين يقظة اللاوعي و استجاع الذكريات التي تومض و تختفي في جو حالم.


كان مجرد النظر إلى فراشةٌ هائمة برشاقة، كافياً لإثارة أفكار في ذهنه عن الحرب والسلام. هذا بلإضافة إلى دراسته لعلم الحيوان التي كانت متشبعه بطبيعته المتأملة. كان كل ذلك وراء قصته القصيرة "فراشةٌ تحلم" 1936، وفيها تحليل لغرابة وجود الإنسان على سطح الأرض


تأثر الي درجة البكاء وهو بنظر في كتاب الي الملامح الملائكية لصورة الشاعر الإنجليزي (شيلي) مع علمه أنه مات شابا صغيرا و ألهمته هذه المشاعر بشخصية "الشاعر" في رواياته " الواجهة" التى نشرت عام 1981. لقد تكونت الرواية في ذهنه كاملة أثناء مروره في شارع كبير في مدينة صغيرة ورؤيته لشارعٍ متفرع من هذا الشارع الكبير وكان الشارع المتفرع غاية في القبح و القذارة وقد لمح أوزه متسكعة بهذا الشارع الصغير، وفي الحال اكتملت الرواية في ذهنه.


بينما كان جالساً، لمح قطرة من الماء على المنضدة، التي بدورها ألهمته بمسرحيته "في قطرة ماء" عام 1947 وفيها يمتزج عالم من الخيال مع مشاعر شديدة الواقعة، حيث يتجرد معني الحياة إلى أقصى درجات التجريد ليصل المؤلف بالقارئ الي عبثية و ضآلة الوجود. وللعبثية هنا وظيفة في محور القصة، و هي أن إدراك الإنسان لهذه العبثية يجرده من الأطماع و الشرور و يجعله أكثر تعاطفا و محبة مع بنى جنسه و بالتالي يتحقق السلام علي الأرض بين البشر.



كان عائداً في القطار بعد حضوره لجنازة أخته التى أحبها كثيرا، عندما ومضت في ذهنه مسرحيتة الفلسفية "غرفة بلا نوافذ"، 1960، التي يكون فيها للموت مفهوماً مختلفاً في عالمٍ آخر.


لقد حلق الدكتور "يوسف عز الدين عيسى" بخياله بعيداً إلى ما وراء الزمان والمكان. كانت أفكاره، علي حد قول النقاد، ذات نبل خاص، تتميز بخصوبة في الخيال وعمق في المعاني وجرأة في تناول قضايا لم يطرقها أحد من قبل. "إن الدكتور يوسف عز الدين عيسي قد حلق في آفاق لم يصل إليها غيره بمثل هذه الجرأة و هذا الصدق ولذا نقول أن لدينا فنان عملاق علي المستوى العالمي يستحق التقدير و يستحق أن نقتلع من أجله الأحزان." أحمد زكي عبد الحليم، حواء 19/ 12/81


ولكن بالرغم من عمق موضوعاته وأفكاره فاسلوبه عذب وسلس و يتميز بتشويقاً أخاذاً إلى آخر كلمة في العمل. إن أسلوب الدكتور يوسف عز الدين عيسى قد وصفه النقاد بأنه "السهل الممتنع"** و قد قيل عن اسلوبه: "لغة الدكتور يوسف عز الدين الأدبية، لغة ذات اقاع ساحر تمتلك الانسياب العفوي في شاعرية و رقة." د. سعيد الورقي، من كتاب "عبقرية الفكر الروائى"، "الرجل الذي باع رأسه ليوسف عز الدين عيسى" 11/1/81


كما قال ايضا الأستاذ الدكتور عبد العزيز شرف: "بعد أن تقرأ عملاً ليوسف عز الدين عيسى، فانك شخص آخر ". إن القارئ يبدأ في التفكير في أشياء كثيرة خاصة بالحياة، أشياء كان يعتبرها أموا مسلم بها من قبل. فكل ما كان يبدو طبيعياً يصبح عجيباً وساحراً وأخاذا. ان أعماله "..تجعلك تقرأ وتتأمل في نفس الوقت و (تشعر) أنك أمام قاص لا يحكي عليك حكاية عادية.. و التي تشعر بعد أن تنتهي منها بمتعة فنية فائقة و رؤية فلسفية، و تحاول أن تجد لعلامات الاستفهام التى تبرز في ذهنك إجابات ... و رغم ذلك فانك سوف تشعر بلذة البحث عن المجهول." مأمون غريب, آخر ساعة مايو 94


إن القضيه المحورية في أعمال الدكتور يوسف عز الدين عيسى هي قضية الإنسان في أي مكان من العالم ؛ كفاحه معاناته وقدره، ولقد كسرت أفكاره الحدود المحلية ، و تأخذ أعماله شكلا تجريديا يختلف عن أشكال التجريد التى تناولها غيره من التجريديين، و هذا بطبيعة الحال يعطى أعمالة حرية و مساحة في التعبير و الخيال لا حدود لهما. إن الإنسان في أعمال يوسف عز الدين عيسى مجرد إنسان، أما الإسم والمكان وحتى الزمان فهم لا يعنون شيء ولا يغيرون أي شيء بالنسبة لقدر الإنسان و مصيره. "الدكتور يوسف عز الدين عيسي … إبداعات تتميز بالاحتجاج علي الوجود الإنساني ميتافيزيقياً و اجتماعياً، و سبيله إلي ذلك توظيف الشعر و الحوار و المونولوج و الحلم و الرمز و الفنتازيا المبطنة بالسخرية، أما قضيته التى تؤرقه فهي الصدام بين القيم النبيلة و قوي الشر و الفساد و العدوان." يوســـف الشـــــارونى، كتاب "مبدعون و جوائز"، 2003


أما من ناحية الاسلوب فاسلوبه سهلا و سلسا، لا يحتوي علي أي حشو آو تفاصيل و لا ختى جماليات ُلغوية لا داع لها، فلكل كلمة في أعماله وظيفة و اٍضافة بالنسبة للعمل ككل و ذلك بالنسبة الأعمال القصصية و المسرحية و حتى الروائية الطويلة، فلكل عبارة وقعا كبيرا تماماً كما هو الحال في النوته الموسيقية، لها دورا خطيرا في تطور الحدث وخدمة الفكرة و المضمون، و يتجرد العمل تجردا شديدا، فحتى ذكر الزمان و المكان و بل و الأسماء، فإن لم يكن لذكرهم دورا في تعميق الفكرة للعمل فهم لا يذكرون أو أحيانا يأخذون شكلا رمزيا. أما إذا كان في بعض أعماله أسماء وأماكن محددة، فإن لوجودها ضرورة هامة وبدونها قد ينهار البناء والتكوين للعمل فهم جزء لا يتجزأ منه. إن القضايا التي تطرحها أعمال الدكتور يوسف عز الدين عيسى قضايا عالمية شاملة تتعلق بالانسان حتى إذا كان للمكان وللشخصيات أحيانا، أسماء ذات طلبع محلي في بعض الأعمال.


إن فكرة "الموت" كأمر لا مفر منه، كنهاية حتمية للإنسان من الأمور التي تسيطر على فكر الدكتور يوسف عز الدين عيسى وهي تظهر في أعماله بشكل مباشر أو غير مباشر، حسبما يقتضي المضمون. كان الدكتور يوسف عز الدين عيسى ينظر إلى الموت كجزء من القهر وبؤس المصير الذي يواجه الإنسان وكان يعتقد أن ذلك بشأنه أن يقرب المسافات بين البشر ويجعل بينهم مودة و تعاطف كرفاق في مركبٍ واحدٍ و لذلك كانت تصدمه الصراعات القائمة بين البشر، أما الحروب، فكان بكل فكره و فلسفته، لا يفهمها، ويعتبرها من أقسى الأشياء التي يفعلعا الإنسان لأخيه الإنسان. "يقدم الدكتور يوسف عز الدين عيسي فنا يتيح له الخلود، فلم يحمل أحدهم الموت في الأدب قدر ما حمله في كتاباته." محمود قاسم، جريدة اليوم 1996


لم تكن فقط الحروب بين الدول وبعضها هي التي تؤرقه، بل وأيضاً الحروب الصغيرة والصراعات القاسية التي تحدث بين الإنسان وأخيه الإنسان كالأحقاد و الكراهية و الرغبة في التدمير، و كانت أعماله تكشف و تحلل كل سلبيات الانسان حتى يري شراسته أمامه كأنه ينظر لنفسه في المرآه و من خلال هذه السلبيات، كما يكشف يوسف عز الدين المعاناه الحقيقية للإنسان المسالم النبيل الذى يجد نفسه مصدوما وسط كل هذه الأحقاد و الشرور ،و بذلك تدعو أعمال الدكتور يوسف عز الدين عيسى الي التعاطف و المحبة و السلام بين البشر لانهم جميعا يلاقون مصير واحد و الحياة صغيرة و قصيرة، فما أتفه أن تهدر لحظاتها في الكراهية و الصراعات. "د. يوسف عز الدين عيسي يكتب أدبا إنسانيا يحمل كل المقومات التى تجعله جديرا بجائزة نوبل." محمد غنيم، برنامج "رواد" 1991


تعد أعمال الدكتور "يوسف عز الدين عيسى" أعمالاً غير نمطية في الأدب؛" …كان الدكتور يوسف عز الدين عيسي كما عرفته إنسانا… متفردا بأفكار تحمل من الأناقة و الرقي ما يضفي علي مفهوم "الفكرة" اتساعا وصفيا لا يمكن حصره في بنود موضعية.." سناء فتح الله/ جريدة الأخبار/ 17/10/2002


و ما هو أيضاً جديرا بالذكر هو التطور الذي أضافه الدكتور يوسف عز الدين عيسى بشكل تلقائي في الصفات التقليدية النمطية للبطل التراجيدي. إن البطل التراجيدي في أعماله لا يلاقي بالضرورة النهاية التراجيدية نتيجة عيبٌ ما في شخصيته أو في تصرفاتة بل نتيجة لعيوب وجمود مشاعر المجتمع المحيط به. بل وكان الدكتور يوسف عز الدين عيسى يعتقد أن تجسيد العيوب أو الخلل في الشخصية الرئيسية قد يكون أحيانا نوع من الاطالة و الحشو أو الاستعراض التي لا داعي لذكرها في العمل الأدبي إلا إذا كانت هذه التفاصيل تخدم العمل أو كانت لهذه العيوب وظيفة تساعد في تطور الحدث وخدمة المضمون. إن البطل التراجيدي في أعماله لا يتطهر و لا يسمو عن طريق الألم، بل إٍنه يتألم لأنه بالفعل طاهر ونبيل و يعيش في مجتمع متبلد المشاعر، جاهل و قاسى و لا يعرف كيف يقدر الأمور. وعموماً فأبطال الدكتور يوسف عز الدين عيسى يتألمون وهذا الألم يضيف إلى طهارتهم و نبلهم، وهنا تتجلي سخرية الدكتور يوسف، فهؤلاء الذين يتطهرون بالألم هم بالفعل طهراء، و هم لا يحتاجون المزيد من التطهر أما هؤلاء القساه، فهم الذين في أمس الحاجة إلي التطهر و السمو بالألم، و لكنهم لا يتألمون لأنهم متبلدون الحس، و هكذا تستمر الحياة، يزداد النبيل نبلا و السفيه سفها! لقد برع الدكتور "يوسف عز الدين" في تحليل الانسان و كشف انحطاط المجتمعات، ".. و قد غاص في أعماق النفس البشرية بكل ماتنطوي عليه من نوازع، أكثر مما حيرت الذين عكفوا عن دراسة "نفس الإنسان".حلمى سلام، مجلة "الفجر" 26/7/75 2003. كما برع في إظهار القسوة الكامنة في النفس البشرية في شكل مجتمعات تعودت علي التبلد و الأنانية التى تتحول بشكل تدريجى إلي القسوة و الوحشية، وهي من الأمور التي قد يتقبلها البعض كأمرٍ مسلم به. ويبقى السؤال في أعماله، هل الإنسان مسئولاً عن هذه القسوة و الوحشية أم لا ؟


هذه كانت بعض السمات الأساسية في أعمال الدكتور يوسف عز الدين عيسى، فمحور تفكيره هو الإنسان وما يحيط به. ومهما حاول هذا الإنسان فهناك أمور لا يستطيع الفرار منها ولا يستطيع تغييرها لأنها ليست ذنب الإنسان. ٌ إن الإنسان مضطراً بأن يتحمل عبء وجوده في الحياة وهو أمرٌ لم يكن له فيه أي اختيار. كما أن الإنسان مضطراً لأن يتعايش مع فكرة الموت كنهاية حتمية لوجوده وهو أيضاً أمرٌ لم يكن له فيه أي اختيار. ان يوسف عز الدين عيسي بقدر ما يري سلبيلت الأنسان و يشمئذ منها، الا أنه أيضا يري برائته و قهره، و لا تحول انتقاداته اللاذعة دون التغاطف معه.


و من المذهل أننا نجد في أدب الدكتور يوسف عز الدين عيسى، وسط كل هذه المظالم والصراعات المفروضة على الإنسان، نجد لمحة هامة وهى الرغبة الغريزية التى تجذب هذا الانسان نحو التجربة بكل آلامها. ان يوسف عز الدين عيسى يشير الي وجود متعة في الكفاح من أجل البحث عن الحقيقة و أسرار الكون، كما أن هناك رغم قسوة الحياة و احباطاتها، حباً شديدا للحياة و تمسكا بها ، يظهر بشكلٍ بديع في كتاباته، ويقف جنبا الي جنبً مع الألم و المعاناه، و من أقواله الشهيرة، "أجمل ما في الحياه أن نحب الحياه، و نحن نرزح تحت أعبائها" ****


*من مقال، " رجل متفرد " مجلة Egypt Today ، رانيا المالكي، عدد أغسطس، 2001 "
** د. زكريا عنانى، في مؤتمر الأدباء، 1998
*** الدكتور يوسف عز الدين عيسى، من "اليوم المفقود"